فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{اقرأ} أيْ مَا يوحَى إليكَ فإنَّ الأمرَ بالقراءة يقتَضي المقروءَ قطعاً وحيثُ لَمْ يُعينَ وجبَ أنْ يكونَ ذلكَ ما يتصلُ بالأمرِ حتماً سواءً كانتِ السورةُ أولَ ما نزلَ أوْ لاَ والأقربُ أنَّ هذا إلى قوله تعالى: {مَا لَمْ يعلم} أولُ ما نزلَ عليه عليهِ الصلاةُ السَّلامُ كما ينطقُ بهِ حديثُ الزُّهريِّ المشهورُ وقوله تعالى: {باسم رَبّكَ} متعلق بمضمرٍ هُو حالٌ من ضميرِ الفاعلِ أي اقرأ ملتبساً باسمهِ تعالى أيْ مُبتدئاً بِه لتتحقق مقارنتُه لجيمعِ أجزاءِ المقروءِ والتعرضُ لعُنْوانِ الربوبيةِ المنبئةِ عنِ التربيةِ والتبيلغِ إلى الكمالِ اللائقِ شيْئاً فشيئاً معَ الإضافةِ إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ للإشعارِ بتبليغِه عليِه السَّلامُ إلى الغايةِ القاصيةِ منَ الكمالاتِ البشريةِ بإنزالِ الوَحي المتواتِرِ ووصفُ الربَّ بقوله تعالَى: {الذى خلق} لتذكيرِ أولِ النعماءِ الفائضةِ عليهِ، عليه الصلاةُ والسلامُ منهُ تعالى والتنبيهِ على أنَّ منْ قدرَ عَلى خلق الإنسان على ما هُو عليِه من الحياة وما يتبعها منَ الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ منْ مادةٍ لم تشمَّ رائحةَ الحياةِ فضلاً عن سائرِ الكمالاتِ قادرٌ على تعليمِ القراءة للحيِّ العالمِ المتكلمِ أي الذي أنشأَ الخلق واستأثرَ بِه أوْ خلق كُلَّ شيءٍ وقوله تعالى: {خلق الإنسان} عَلى الأولِ تخصيصُ لخلق الإنسان بالذكرِ من بينِ سائرِ المخلوقاتِ لاستقلالِه ببدائعِ الصنعِ والتدبيرِ وَعَلى الثاني إفرادٌ للإنسانِ منْ بينِ سائرِ المخلوقاتِ بالبيانِ وتفخيمٌ لشأنِه إذْ هُو أشرفُهم وإليهِ التنزيلُ وهُو المأمورُ بالقراءة ويجوزُ أنْ يرادَ بالفعلِ الأولِ أيضاً خلق الإنسان ويقصدُ بتجريدِه عن المفعولِ الإبهامُ ثمَّ التفسيرُ رَوماً لتفخيمِ فطرتِه وقوله تعالى: {مِنْ علق} أيْ دمٍ جامدٍ لبيانِ كمالِ قُدرتِه تعالى بإظهارِ مَا بينَ حالتِه الأولى والآخرةِ من التباينِ البينِ وإيرادُه بلفظِ الجمعِ بناءً على أنَّ الإنسان في مَعْنى الجمعِ لمراعاةِ الفواصلِ ولعلَّه هو السرُّ في تخصيصِه بالذكرِ منْ بينِ سائرِ أطوارِ الفطرة الإنسانيةِ معَ كونِ النطفةِ والترابِ أدلَّ منْهُ عَلَى كمالِ القُدرةِ لكونِهما أبعدَ منْهُ بالنسبةِ إلى الإنسانيةِ ولَمَّا كانَ خلق الإنسان أو النعمُ الفائضةُ عليه عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ مِنْهُ تعالى أقدمَ الدلائلِ الدالةِ على وجودِه عزَّ وجلَّ وكمالِ قُدرتِه وعلمِه وحكمتِه وصفَ ذاتَه تَعالى بذلكَ أولاً ليستشهدَ عليه السلامُ بهِ على تمكينهِ تعالى لَه منَ القراءة ثم كررَ الأمرَ بقوله تعالى: {اقرأ} أي افعلْ ما أُمرتَ بِه تأكيداً للإيجابِ وتمهيداً لما يعقبُه منْ قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الأكرم} الخ، فأنَّه كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لإزاحةِ ما بينَهُ عليه السَّلامُ منَ العُذرِ بقوله عليه السلام: «مَا أنَا بقارئ» يريدُ أنَّ القراءة شأنُ منْ يكتبُ ويقرأ وأنَا أُميٌّ فقيلَ لَهُ: وربُّكَ الذي أمركَ بالقراءة مبتدئاً باسمِه هو الأكرم.
{الذى عَلَّمَ بالقلم} أي علمَ ما علمَ بواسطةِ القلمِ لا غيرِه فمَا علَّم القارئَ بواسطةِ الكتابةِ والقلمِ يعلمكَ بدونِهما.
وقوله تعالَى: {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم} بدلُ اشتمالٍ منْ {عَلَّمَ بالقلم} أي علَّمه بهِ وبدونِه منَ الأمورِ الكليةِ والجزئيةِ والجليةِ والخفيةِ مَا لَمْ يخطرُ ببالِه وفي حذفِ المفعولِ أولاً وإيرادِه بعنوانِ عدمِ المعلوميةِ ثانياً من الدلالةِ عَلى كمالِ قُدرتِه تعالى وكمالِ كَرَمِه والإشعارِ بأنَّه تعالى يعلمه من العلومُ ممَّا لا تحيطُ بِه العقول مَا لا يخفى {كَلاَّ} ردعٌ لمن كفرَ بنعمةِ الله تعالى بطغيانِه وإن لم يسبقْ ذكرُهُ للمبالغةِ في الزجرِ.
وقوله تعالَى: {إِنَّ الإنسان ليطغى} أيْ ليجاوزُ الحدَّ ويستكبرُ عَلى ربِّه بيانٌ للمردوعِ والمردوعِ عَنْهُ قيلَ: هَذَا إلى آخرِ السورةِ نزلَ في أبي جهلٍ بعدَ زمانٍ وهو الظاهرُ.
وقوله تعالَى: {أَن رَّءاهُ استغنى} مفعولٌ لَهُ أي يطغى لأنْ رَأى نفسَهُ مستغنيا علي أنَّ {استغنى} مفعولٌ ثانٍ لرأى لأنه بمَعْنى علمَ ولذلكَ ساغَ كونُ فاعلِه ومفعولِه ضميري واحد كَمَا في علمتني وإن جَوَّزَهُ بعضُهم فِي الرؤيةِ البصريةِ أيضاً وجعلَ منْ ذلك عائشةَ رضيَ الله عَنْها: «لقد رأيتُنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما لَنا طعامٌ إلاَّ الأسودانِ» وتعليلُ طُغيانِه برؤيتهِ لا بنفسِ الاستغناءِ كمَا ينبئُ عَنْه قوله تعالَى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ في الأرض} للإيذانِ بأنَّ مَدَارَ طُغيانهِ عملهُ الفاسدُ.
رويأنَّ أبا جهلٍ قال لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أتزعمُ أنَّ منِ استغنى طغَى فاجعلُ لنَا جبالَ مكةَ فضةً وذهباً لعلنَا نأخذُ منْهَا فنطغَى فندعَ ديننَا ونتبعَ دينكَ فنزلَ عليهِ جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقال: إن شئْتَ فعلنَا ذلكَ ثُمَّ إنْ لَمْ يُؤمنوا فعلنَا بهمْ مَا فعلنَا بأصحابِ المائدةِ فكفَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الدُّعاءِ إبقاءً عليهمْ.
وقوله تعالَى: {إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} تهديدٌ للطاغي وتحذيرٌ لَهُ عنْ عاقبةِ الطغيانِ والالتفاتُ للتشديدِ في التهديدِ و{الرجعى} مصدرٌ بمعنَى الرُّجوعِ كالبشرى، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عليهِ أيْ إنَّ إلى مالكِ أمركِ رجوعَ الكُلِّ بالموتِ والبعثِ لا إلى غيرهِ استقلالاً ولا اشتراكاً فسترى حينئذٍ عاقبةَ طُغيانِكَ.
وقوله تعالَى: {أَرَءَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} تقبيحٌ وتشنيعٌ لحالهِ وتعجيبٌ منهَا وإيذانٌ بأنَّها منَ الشناعةِ والغرابةِ بحيثُ يجبُ أنْ يَراهَا كُلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ ويقضي منهَا العجبَ.
روي أن أبَا جهلٍ قال في ملأٍ من طُغاةِ قريشٍ لئِنْ رأيتُ محمداً يُصلي لأطأنَّ عنقَهُ فرآهُ عليهِ السَّلامُ في الصَّلاةِ فجاءَهُ ثُمَّ نكصَ عَلى عقبيهِ فقالوا: ما لكَ؟ قال: إن بيني وبينهُ لخندقاً منْ نارٍ وهولاً وأجنحةً فنزلتْ ولفظُ العبدِ وتنكيرُه لتفخيمِه عليهِ السَّلامُ واستعظامِ النَّهي وتأكيدِ التعجبِ منْهُ والرؤيةُ هاهنا بصريةٌ.
وَأمَّا مَا فِي قوله تعالى: {أَرَءيْتَ إِن كَانَ على الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى} ومَا في قوله تعالَى: {أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} فقلبيةٌ معناهُ أخبرني فإنَّ الرؤيةَ لما كانت سبباً للإخبارِ عنِ المَرئي أجرى الاستفهامُ عنْهَا مجرى الاستخبارِ عنْ متعلقها والخطابُ لكلِّ منْ صلُحَ للخطابِ، ونظمُ الأمرِ والتكذيبِ والتولِّي في سلكِ الشرطِ المترددِ بينَ الوقوعِ وعدمهِ ليسَ باعتبارِ نفسَ الأفعالِ المذكورةِ منْ حيثُ صدورُها عن الفاعلِ فإنَّ ذلكَ ليسَ في حيزِ الترددِ أصلاً بلْ باعتبارِ أوصافها التي هِيَ كونُها أمراً بالتقوى وتكذيباً وتولياً كَمَا في قوله تعالَى: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ} كَمَا مرَّ والمفعولُ الأولُ لأرأيتَ محذوفٌ وهو ضميرٌ يعودُ إلى الموصولِ أو اسمُ إشارةِ يُشارُ بهِ إليهِ ومفعولُه الثاني سدَّ مسدَّهُ الجملةُ الشرطيةُ بجوابها المحذوفِ فإنَّ المفعولَ الثاني لـ: {أرأيتَ} لا يكونُ إلا جملةً استفهاميةً أو قسميةً والمعَنى أخبرني ذلك الناهي إن كانَ على الهدى فيمَا ينهي عَنْهُ منْ عبادةِ الله تعالى أوْ آمراً بالتقوى فيمَا يأمرُ بهِ من عبادةِ الأوثانِ كما يعتقدُه أوْ مكذباً للحقِّ مُعرضاً عن الصَّوابِ كَما نقول نحنُ: {أَلَمْ يعلم بِأَنَّ الله يرى} أيْ يطلعُ على أحوالِه فيجازيَهُ بِهَا حتَّى اجترأ على ما فعلَ وإنَّما أفردَ التكذيبَ والتولِّي بشرطيةٍ مستقلةٍ مقرونةٍ بالجوابِ مصدرةٍ باستخبارٍ مستأنفِ ولم ينظمَا في سلكِ الشرطِ الأولِ بعطفهما على كانَ للإيذانِ باستقلالهما بالوقوعِ في نفسِ الأمرِ واستتباعِ الوعيدِ الذي ينطقُ بهِ الجوابُ، وأما القسمُ الأولُ فأمرٌ مستحيلٌ قد ذكرَ في حيز الشرطِ لتوسيعِ الدائرةِ وهو السرُّ في تجريدِ الشرطيةِ الأولى عنِ الجوابِ والإحالةِ بهِ على جوابِ الثانيةِ هَذا وقد قيلَ: {أرأيتَ} الأولُ بمعنى أخبرني مفعولُه الأولُ الموصولُ ومفعولُه الثاني الشرطيةُ الأولى بجوابها المحذوفِ لدلالةِ جوابِ الشرطيةِ الثانيةِ عليه و{أرأيتَ} في الموضعينِ تكريرٌ للتأكيدِ ومعناهُ أخبرني عمَّنْ ينهى بعضَ عبادِ الله عن صلاته إنْ كانَ ذلكَ النَّاهي علَى طريقةٍ سديدةِ فيما ينهى عنْ عبادةِ الله تعالى أوْ كانَ آمراً بالمعروفِ والتَّقوى فيما يأمرُ بهِ من عبادةِ الأوثانِ كما يعتقدهُ وكذلكَ إنْ كانَ على التكذيبِ للحقِّ والتولِّي عنِ الدينِ الصحيح كما نقول نحنُ ألم يعلم بأن الله يرى ويطلعُ على أحوالِه منْ هُداهُ وضلالهِ فيجازيَهُ عَلى حسبِ ذلكَ فتأملْ.
وقيلَ: المَعْنى أرأيتَ الَّذي ينهى عبْداً يُصلي والمُنهيُّ عنِ الهدى آمرٌ بالتقوى والنَّاهي مكذبٌ مُتولي فما أعجبَ من ذَا، وقيلَ: الخطابُ الثاني للكافرِ فإنَّه تعالَى كالحاكمِ الذي حضَرهُ الخصمانِ يخاطبُ هذا مرةً والآخرَ أُخرى وكأنَّه قال: يا كافرُ أخبرني إنْ كانَ صلاتُه هُدى ودُعاؤُه إلى الله تعالى أمراً بالتقوى أتنهاهُ.
وقيلَ: هُو أميةُ بنُ خلفٍ كانَ ينهى سلمانَ عنِ الصَّلاةِ.
{كَلاَّ} ردعٌ للناهي اللعينِ وخسوءٌ لَهُ واللامُ في قوله تعالَى: {لئن لم ينته} موطئةٌ للقسمِ أي والله لئن لم ينته عَمَّا هُو عليهِ ولمْ ينزجرْ {لَنَسْفَعاً بالناصية} لنأخذنَّ بناصيتهِ ولنسحبنّهُ بِهَا إلى النَّارِ والسفعُ القبضُ على الشيءِ وجذبُه بعنفٍ وشدةٍ وقرئ {لنسفعنَّ} بالنونِ المشددةِ وقرئ {لأسفعنَّ} وكتبتهُ في المصحفِ بالألفِ عَلى حكمِ الوقفِ والاكتفاءُ بلامِ العهدِ عنِ الإضافةِ لظهورِ أنَّ المرادَ ناصيةُ المذكورِ {نَاصِيَةٍ كاذبة خاطئة} بدلٌ منَ الناصيةِ وإنَّما جازَ إبدالُها منَ المعرفةِ وهي نكرةٌ لوصفِها وقرئتْ بالرفعِ على هِيَ ناصيةٌ وبالنصبِ وكلاهُما على الذمِّ والشتمِ ووصفُها بالكذبِ والخطإِ على الإسنادِ المجازيِّ وهُمَا لصاحبها وفيهِ من الجزالةِ مَا ليسَ في قوله ناصيةُ كاذبٍ خاطئٍ {فَلْيَدْعُ ناديه} أيْ أهلَ ناديه ليعينوهُ وهُو المجلسُ الَّذي ينتدي فيه القومُ أي يجتمعونَ.
روي أنَّ أبَا جهلٍ مرَّ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهُو يُصلي فقال ألم أنهكَ فأغلظَ لَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتهددني وأنا أكثرُ أهلِ الوادي نادياً فنزلتْ: {سَنَدْعُ الزبانية} ليجروه إلى النَّارِ والزبانية الشرطُ، الواحد زبْنيةٌ كعفريةٍ من الزِّبنِ وهُوَ الدَّفعْ وقيلَ: زَبَنِي وكأنَّه نسبَ إلى الزبنِ ثُمَّ غير كأمْسى وأصلُها زَبَاني فقيلَ: زبانيةٌ بتعويضِ التاءِ عن الياءِ والمرادُ ملائكةُ العذابِ وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ دَعا ناديه لأخذتْهُ الزبانية عياناً»
{كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ واقترب (19)}
{كَلاَّ} ردعٌ بعدَ ردعٍ وزجرٌ إثرَ زجرٍ {لاَ تُطِعْهُ} أيْ دُم عَلى مَا أنتَ عليهِ منْ معاصاتِه {واسجد} وواظبْ عَلى سجودِكَ وصلاتك غيرَ مكترثٍ بِه {واقترب} وتقربْ بذلك إلى ربِّكَ وفي الحديثِ أقربُ ما يكونُ العبدُ إلى ربِّه إذَا سجدَ. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تبارك وتعالى: {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خلق}
يقول: اقرأ القرآن بأمر ربك، وهذه أول سورة نزلت من القرآن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما بلغ أربعين سنة، كان يسمع صوتًا يناديه يا محمد، ولا يرى شخصه، وكان يخشى على نفسه الجنون، حتى رأى جبريل عليه السلام يومًا في صورته، فغشي عليه، فحمل إلى بيت خديجة.
فقالوا لها تزوجت مجنونًا، فلما أفاق أخبر بذلك خديجة، فجاءت إلى ورقة بن نوفل، وكان يقرأ الإنجيل ويفسره.
ثم جاءت إلى عداس، وكان راهبًا، فقال لها: إن له نبأ وشأنًا، يظهر أمره.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى الوادي، فجاء جبريل عليه السلام بهذه السورة، وأمره بأن يتوضأ ويصلي ركعتين، فلما رجع أعلم بذلك خديجة، وعلمها الصلاة وذلك قوله: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا الناس والحجارة عَلَيْهَا ملائكة غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] يعني: علموهم وأدبوهم.
وروى معمر عن الزهري أنه قال: أخبرني عروة عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي، الرؤيا الصالحة الصادقة، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حُبِّب الخلاءُ إليه.
يعني: العزلة وكان يأتي حراء، ويمكث هناك، ثم يرجع إلى خديجة. فجاءه الملك، وهو على حراء فقال له: اقرأ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني ثانية، حتى بلغ مني الجهد.
ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خلق خلق الإنسان مِنْ علق اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مَا لَمْ يعلم} فرجع ترجف بوادره، وقد أخذته الرّعدة، حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع»
، فذلك قوله: {اقرأ باسم رَبّكَ} يعني: اقرأ بعون الله ووحيه إليك، ويقال معناه {اقرأ باسم رَبّكَ} كقوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] يعني: اذكر ربك الذي خلق الخلائق.
ثم قال عز وجل: {خلق الإنسان مِنْ علق} يعني: ابن آدم من دم عبيط، وقال في آية أخرى: {أَلَمْ نَخلقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ} [المرسلات: 20] وقال في آية أخرى: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ علقةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخلقةٍ وَغَيْرِ مُخلقةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ في الارحام مَا نَشَاءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يعلم مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتت مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
[الحج: 5] وهذه الآيات يصدّق بعضها بعضًا، لأن أول الخلق من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة.
كما بين الجملة في موضع آخر.
ثم قال عز وجل: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} يعني: اقرأ يا محمد صلى الله عليه وسلم وربك يعينك ويفهمك، وإن كنت غير قارئ {الأكرم} يعني: ربك المتجاوز عن جهل العباد، ويقال: {اقرأ} وقد تم الكلام، ثم استأنف فقال: {وَرَبُّكَ الأكرم} يعني: الكريم ويقال الأكرم يعني: المكرم الذي يكرم من يشاء بالإسلام.
ثم قال: {الذى عَلَّمَكُمُ بالقلم} علم الكتابة، والخط بالقلم {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم} يعني: علم آدم عليه السلام أسماء كل شيء، يعني: ألهمه ويقال: {عَلَّمَ الإنسان} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم {مَا لَمْ يعلم} يعني: القرآن كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جعلناه نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ويقال: علم الإنسان ما لم يعلم، يعني: علم بني آدم ما لم يعلموا كقوله: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [النحل: 78].
ثم قال عز وجل: {كَلاَّ} يعني: حقًا {إِنَّ الإنسان ليطغى} يعني: الكافر ليعصي الله.
ويقال: يرفع منزلة نفسه {أَن رَّءاهُ استغنى} يعني: إن رأى نفسه مستغنيًا عن الله تعالى، مثل أبي جهل وأصحابه، ومثل فرعون حيث ادعى الربوبية.
قال أبو الليث رحمه الله: حدثنا أبو جعفر بن عوف، عن الأعمش، عن القاسم قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: منهومان لا يشبعان، طالب العلم وطالب الدنيا، ولا يستويان أما طالب العلم، فيزداد رضا الله وأما طالب الدنيا، فيزداد في الطغيان ثم قال: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّءاهُ استغنى}.
ثم قال: {إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} يعني: المرجع إلى الله تعالى يوم القيامة، ويقال: معناه رجوع الخلائق كلهم بعد الموت إلى الله تعالى، فيحاسبون ويجازون، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْدًا إِذَا صلى} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا صلى في المسجد، رفع صوته بالقراءة، فلغطوا ورموه بالحجارة، فخفض صوته في الصلاتين الظهر والعصر، إذا حضروا.
وأما صلاة المغرب، اشتغلوا بالعشاء وصلاة العشاء ناموا، وصلاة الفجر لم يقوموا، فرفع في هذا، فصار سنة إلى اليوم فنزل {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْدًا إِذَا صلى} ويقال: إن أبا جهل بن هشام قال: لئن رأيت محمدًا صلى الله عليه وسلم يصلي، لأطانّ عنقه فنزل {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْدًا إِذَا صلى} يعني: ألم تر أن هذا الكافر، ينهى عبد الله عن الصلاة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: {أَرَءيْتَ إِن كَانَ على الهدى} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، إن كان على الإسلام {أَوْ أَمَرَ بالتقوى} يعني: التوحيد.
ثم قال: {أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} يعني: {أَن كَذَّبَ} بالتوحيد {وتولى} عن الإسلام {أَلَمْ يعلم بِأَنَّ الله يرى} أفعاله فيجازيه، وهذا جواب لجميع ما تقدم من قوله: {أَرَأَيْتَ} ويقال في الآية إضمار وهو قوله: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْدًا إِذَا صلى} يعني: بهذا الذي يصنع، ويؤذي محمدًا صلى الله عليه وسلم، أليس هو على ضلالة، أليس هو قد نهى عن الصلاة والخيرات {أَرَءيْتَ إِن كَانَ على الهدى} يعني: أرأيت أيها الناهي، إن كان المصلي على الهدى {أَوْ أَمَرَ بالتقوى} يعني: بالتوحيد، واجتناب المعاصي، فينهاه عن ذلك.
ثم قال: {كَلاَّ لئن لم ينته} يعني: حقًا لئن لم يمتنع أبو جهل، عن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتب، ولم يسلم قبل الموت {لَنَسْفَعًا بالناصية} يعني: لنأخذ به بالناصية أخذًا شديدًا، يعني: يؤخذ بنواصيه يوم القيامة، ويطوى مع قدميه، ويطرح في النار.
فنزلت الآية في شأن أبي جهل، وهي عظة لجميع الناس، وتهديد لمن يمنع عن الخير، وعن الطاعة.
ثم قال عز وجل: {نَاصِيَةٍ كاذبة خاطئة} جعل الكاذبة صفة الناصية، وإنما أراد صاحب الناصية، يعني: {ناصية كاذبة} على الله تعالى، {خاطئة} يعني: مشركة.
وقال مجاهد: الذي يجحد، ويأكل رزق الله تعالى، ويعبد غيره.
ثم قال عز وجل: {فَلْيَدْعُ ناديه} يعني: قل يا محمد صلى الله عليه وسلم، {فليدع} أهل مجلسه، وأصحابه الكفرة حتى {سَنَدْعُ الزبانية} يعني: الملائكة، هم ملائكة العذاب، غلاظ شداد، و{الزبانية} أخذ من الزَّبْن، وهو الدفع وإنما سمّوا {الزبانية}، لأنهم يدفعون الكفار إلى النار.
ويقال: إنما سموا زبانية، لأنهم يعملون بأرجلهم، كما يعملون بأيديهم.
وروي في الخبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ بهذه السورة، وبلغ إلى قوله: {لنسفعًا بالناصية}، قال أبو جهل: أنا أدعو قومي، حتى يمنعوا عني ربك.
قال الله تعالى: {فَلْيَدْعُ ناديه سَنَدْعُ الزبانية} فلما سمع ذكر {الزبانية}، رجع فزعًا.
فقيل له: خشيت منه، قال: ولكن رأيت عنده فارسًا فهددني بالزبانية، فلا أدري ما الزبانية، ومال إلي الفارس، فخشيت أن يأكلني.
وروى عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هدد أبا جهل فقال: لِمَ تهددني؟ فوالله علمتَ أني أكثر أهل الوادي ناديًا، لئن دعوتُ، يعني: أهل مجلسي منعوني عن ربك، فنزل {فَلْيَدْعُ ناديه سَنَدْعُ الزبانية} قال ابن عباس رضي الله عنه: لو دعا ناديه، أخذته الزبانية.
ثم قال: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ} يعني: حقًا لا تطعه في ترك الصلاة يا محمد {واسجد} يعني: صل لله تبارك وتعالى: {واقترب} يعني: صل واقترب إلى ربك، بالأعمال الصالحة.
وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، ألا يرى إلى قوله: {واسجد واقترب} يعني: اقترب إلى ربك بالسجود، واعلم أن السجود أربعة أحرف، السين سرعة المطيعين والجيم جهد العابدين والدال دوام المجتهدين والهاء هداية العارفين ويقال السين سرور العارفين، الجيم جمال العابدين، والدال دولة المطيعين، والهاء هبة الصديقين. اهـ.